بنور
فاطمة صلوات الله عليها اهتديت
عبد
المنعم حسن
الاهداء
إلى بضعة المصطفى وقرة عينه...
إلى التي ترعرعت في بيت الوحي وتربت
في حضن أعظم الأنبياء...
إلى الصديقة الطاهرة المطهرة المعصومة..
وصاحبة المواقف الفاصلة..
إلى المظلومة المقهورة المهضوم حقها..
إلى الشمعة التي أخذتني إلى حيث
الهداية..
وفتحت لي آفاق نور الولاية..
سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء (ع)..
وإلى حفيدها الأمل المرتجى وكاشف
الدجى.
العدل المنتظر المهدي الحجة بن الحسن
عجل الله فرجه الشريف الإمام الثاني عشر والخاتم الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا..
راجيا القبول
الشيعي المعلن، ولا أشك كما ذكرت أن التوجه في السودان كان شيعيا ولكن بمرور الزمن وتوافد التجار العرب باتجاهاتهم المختلفة والخوف من سطوة الأيوبي كل ذلك كان له الأثر في تغيير الأجيال اللاحقة.
إن معرفة وصلة السودانيين بأهل البيت (ع) تتجلى في عدة مظاهر منها (1).
(1) الولاء الديني والسياسي.
إن قطاعا كبيرا من الشعب السوداني ينتمي إلى طوائف صوفية تقود العمل السياسي والديني والتي غالبا ما يكون زعماؤها ممن ينتسبون إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والارتباط العاطفي لهذا القطاع العريض بهذه الطرق على أساس أنهم ينتسبون إلى أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا توجد طريقة صوفية في السودان يجهل منتسبوها أهل البيت (ع) بل ويكنون لهم حبا واحتراما جما وللدلالة على ذلك نشير إلى بعض ما ورد في كتب الشريف يوسف الهندي مؤسس الطريقة الهندية كنموذج حي لما أسلفنا: -
(اللهم إنما نحمدك بجميع محامدك السنية ونسألك بذاتك وصفاتك والكتب القديمة والأديان. أن تصلي وتسلم على محمد وآله وصحبه في كل طرفة عين، وعلى صالح آبائه وأزواجه وأبنائه والإخوان، وعلى إمام الأئمة علي وسيدتنا فاطمة اللذين تخيرت منهما الذرية، وابنيهما سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الأمة الحسنان، وعلى أئمتنا علي زين العابدين ومحمد باقر العلوم الدينية وجعفر الصادق وموسى الكاظم قادة الإنس والجان وعلي الرضا ومحمد الجواد الهداة الهادية المهدية وعلي الهادي والحسن العسكري الخالص وارثي أسرار النبوة وعلوم القرآن وإمامنا المهدي صاحب البشارة الفاطمية الذي لا خير في العيش ولا في الحياة بعده لأهل الإيمان (نقلا عن المولد الكبير ص 72 الشريف يوسف الهندي). ولم يكتف المؤلف
____________
(1) - مقاطع من دراسة للكاتب السوداني الطيب أحمد حسن في مجلة أهل البيت (ع) العدد الأول بيروت تحت عنوان أهل البيت (ع) تراث المسلمين في السودان.
الكاظم للكلام والراضي بالقسام * الهادي للأنام والباقر للظلام
آل البيت يا غلام أصل الدين والنظام * في المبدأ والختام بهم نيل المرام
ويقول في أخرى: -
هم الشفاعة في غد هم السقاية في الملم * هم الهداية حاضرة والنور والقصد الأعم
الطيبون الطاهرون من سوء أرجاس اللمم
والبيت الأخير دليل على اعتقاد الشاعر بعصمة أهل البيت (ع) عن اللمم فضلا عن غيرها من الذنوب والكبائر.
وهنالك الكثير من شعراء الصوفية الذي تخصصوا في مدح آل البيت (ع) وهذا أحدهم يسمى البرعي ومعروف في السودان يقول: -
سيدي الحسين الثائر درهم * وعلي زين العابدين حبرهم
جعفرنا الصادق مع موسى صدرهم * أستاذنا الباقر في العلم بحرهم
في البر وبحرهم لله درهم
إن أهل البيت (ع) اختصوا بألقاب لم تكن معروفة من قبلهم وارتبطت بهم ارتباطا وثيقا وتناقلها محبوهم وأتباعهم جيلا بعد جيل وصارت أسماء متداولة وهي المرتضى (علي) والزهراء وبتول (فاطمة) حسن وحسين زين العابدين (السجاد)، الباقر، الصادق، الكاظم رضا الهادي والمهدي وهذه الأسماء نجدها منتشرة في السودان بكثرة تلفت النظر. وربما يكون انتشار اسم المهدي نسبة لمحمد أحمد المهدي الذي قام بثورة ضد الأتراك وطردهم من السودان وكون حكومة إسلامية وذلك باعتبار أنه المهدي المنتظر، وأيا كان سبب انتشار الاسم يبقى جذر الاعتقاد بولاية أهل البيت (ع). وكل الأسماء المذكورة نجدها في السودان أكثر من الدول العربية الأخرى مما يدلل على عمق محبة السودانيين لأهل بيت النبوة (ع).
3 - كما أن هنالك العديد من القبائل التي تدعي انتسابها لأهل البيت (ع) ولا يعنينا البحث عن صحة مدعاهم وإنما نورد ذلك لدلالته على صدق قولنا حول عمق معرفة ومحبة الناس لأهل البيت (ع) ومن هذه القبائل العبدلاب ويذكرون أن نسبهم ينتهي إلى الإمام محمد التقي بن علي الهادي، وقبيلة الركابية التي يرجع نسبها كما يذكرون إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهنالك أيضا قبيلة الجعافرة التي تنتسب إلى الإمام جعفر الصادق (ع)... وغيرها من القبائل.
4 - الثقافة الشعبية:
إذا أراد أحد السودانيين أن يعبر عن مدى مظلوميته وبالغ الحيف الذي وقع به يقول: (أنا مظلوم ظلم الحسن والحسين) وربما لا يدرك البعض رغم ترداده لهذه المقولة من الذي ظلم الحسن؟ ومن الذي ظلم الحسين؟ وكيف ظلما إنما هو يردد جزءا من الموروث الثقافي الشعبي في السودان، ومن ناحية أخرى لا يكاد أحد منا في صغره لم يسمع شيئا من أبويه أو جدية عن سيف علي الكرار وشجاعة حيدر الكرار وشعر المدائح السوداني يفيض بهذه المعاني.
الفصل الرابع
بنور فاطمة اهتديت
بنور فاطمة اهتديت
حوار في بداية الطريق
كنت قلقا جدا وأنا أحاول تجنب أي حوار مع ابن عمي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسد في سلوكه أدبا وأخلاقا ومنطقا مما جعلني أفكر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة رغم قناعتي بأن ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة، أو ربما نزوة عابرة جعلته يتبنى هذه الأفكار الغربية.
قلقي كان نابعا من تخوفي لأن أتأثر بفكرته أو ربما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها وبالتالي أخالف ما عليه الناس وما وجدت عليه آبائي وسأكون شاذا في المجتمع وربما اتهمت بأني مارق من الدين كما أتهم.
ولكني تجاوزت كل ذلك وقررت أن أخوض معه حوارا لعلني أجد منفذا أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه خصوصا وأنني قرأت كتبا لا بأس بها ضد الشيعة والتشيع ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله فبدأت معه الحوار.
قلت له: الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيا فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغير مذهبك غدا؟
قال: الآية الكريمة تقول (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل وقد أفرغت وسعي وتوصلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت (ع) والدليل على صحته أن الأدلة التي يسوقها أصحابه مما اتفق عليه جميع المسلمين.
قلت: لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟
قال: أولا: من قال لك أنه لا يوجد غيري! وثانيا وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحة أو خطأ ما توصلت إليه، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحق ومن ثم اتباعه ولا شأن لي بغيري لأن الله يقول (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (سورة المائدة / 5).
قال: الشيعة ليست بهذه القلة التي تتصورها، فهم يمثلون غالبية في كثير من الدول، ثم إن الكثرة والقلة ليست معيارا للحق بل القرآن كثيرا ما يذم الكثرة يقول تعالى (ولكن أكثركم للحق كارهون) (سورة الزخرف: آية / 78) ويقول (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (سورة الأعراف: آية / 17) (وقليل من عبادي الشكور)، (سورة سبأ: آية / 13)، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حق.
أما التشيع كمنهج سماوي فهو موجود بدليل أنني شيعي، وإذا وجه الإشكال إلى عدم انتشار التشيع فهذا يتوجه أيضا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول دعوته وحتى وفاته إذ أن الإسلام لم يكن منتشرا ومع ذلك فهو الحق المنزل من قبل الله تعالى.
قلت متعجبا: وهل تريدني أن أسلم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متدينين طريقهم غير الذي أمر به الله.
ابتسم قائلا: أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين فالله أعلم بهم ولكن أذكرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد يقول تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) (سورة البقرة: آية / 170).
شعرت بأن الحوار قد أخذ منحى عاما وأن حجته بدت في هذا المجال قوية ومدعمة بآيات قرآنية فقررت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت نقدها من الكتب وتركتها كورقة أخيرة في النهاية لأني على ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص، ولأغير مجرى الحديث إلى حيث أريد قلت له:
هنا اعتدل في جلسته وقال: الشيعة يقولون أن هذا الدين الخاتم لا يجوز لنا أخذه إلا عن طريق أئمة أهل البيت (ع) ويعتبرون أن هذا هو عين التمسك بسنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المطلوب من كل إنسان.
قلت ساخرا: كلنا نتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أحد يرى أنه خلاف ما جاء به عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال: الأمر ليس مجرد ادعاء إنما يجب إثبات ذلك بالدليل، ونحن كشيعة نرى أن المسألة الأساسية التي ابتليت بها الأمة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي اختص بها علي (ع) كوصي وخليفة ومن بعده أئمة أهل البيت (ع)، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسية، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين أما ما أخذ من غيرهم فلا نقول أنه باطل مطلقا ولكنه حق مخلوط بباطل ونحن مأمورون بأخذ الحق فقط دون غيره.
قلت: وما جدوائية البحث حول قضية مرت عليها قرون وهل يفيدونا إذا ما كان علي هو الخليفة أم أبو بكر؟! سكت قليلا ثم قال:
عندما ننظر يا أخي لكل مشكلة يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتى نحللها، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي طالب وأعطيت لغيره بلا حق، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمة والآن أنا أمامك أقول لك أن الشيعة على حق وأنت ترى خلاف ذلك، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ومن الذي خالف...
هنا أخذتني العزة وقررت الهجوم عليه من كل جانب فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعا: - إذا أنتم تشككون في الصحابة؟!
- لا أريدك أن تناقشني في عموميات! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)! أتدري ماذا يعني ذلك؟
يعني أن نشكك في كل ديننا. فكيف تجوزون لأنفسكم ذلك وأرجو ألا تستعمل معي التقية المعروفة عندكم.
أجاب: أولا: التقية شرعية من الكتاب والسنة ولها مجالها، وهي ليست واجبة في كل الأحوال إنما لها ظروفها الخاصة، وأنا لا أمثل كل الشيعة، بإمكانك أن تطلع على كتب الشيعة فلن تجد غير كلامي هذا، أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلى مستوى التشكيك في الدين إلا إذا كان الدين عندك ملخصا في الصحابة..
قاطعته: إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين.
قال: بحثنا الآن حول نقلهم وهذا أول الكلام وبيت القصيد أنتم تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل وتبدأون عملية معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخرة بعد عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن منهم من كان منافقا وآخر كان لا يفقه شيئا...
وهكذا، أضف إلى ذلك من الذي قال أن الجميع قد بايع أبا بكر، ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أول المعترضين كان عليا (ع) ومعه مجموعة من الصحابة...
قلت: لو كان الأمر كما تدعون لنصر الله عليا وخذل أبا بكر وهذا دليل على أن الله اختار للأمة أبا بكر.
قال: بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن الله بها العباد. إن الله يبين الطريق للناس فقط ثم يدعهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والله لا يجبر الناس
وإلا نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب، ونتيجة كلامك هذا أن أي شخص يتحكم في رقابنا يجب أن نهتف له ونعتبره تأييدا من الله وهذا ما لا يعقل.
ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا: إنكم تغالون في أهل البيت وتقولون أنهم معصومون، كما أنكم تبيحون زواج المتعة وتجمعون في الصلاة وتصلون للحجر والأخير رأيته بعيني يعني لم أقرأه في كتاب فقط.
قال: أخي هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ولكن من المنهجية أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكيا، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصا غير مؤمن بالله إلى الإسلام لن تبدأ معه بكيفية الوضوء والصلاة بل لا بد من إقناعه بوجود الله تعالى ثم النبي ثم تفرع على ذلك.
فأطلب منك أخي أن تبحث بتجرد وستري نور الحقيقة. انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجب من هذه الثقة التي يملكها، وفكرت في البحث ولكن ليس لكي أقتنع وإنما لأملك أدلة أقوى أدحض بها حججه، وبعد فترة قررت ألا أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيدا عن المشاكل وحتى لا أتأثر بهذه الأفكار الغريبة والتي أرى شخصا عن قرب يتبناها.
ثم كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث.
البداية
" تسرون حسوا في ارتغاء وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشى، وأنتم الآن تزعمون لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته، أيها المسلمون!! أأغلب على إرثي.
يا بن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول (وورث سليمان
داوود) وقال فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون إنا أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك. نعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون.
بنور فاطمة اهتديت
كلمات كالسهم نفذت إلى أعماقي. فتحت جرحا لا أظنه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الانحدار ما استطعت!.
ولكنها انهمرت وكأنها تصر على أن تغسل عار التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرف على مأساة الأمة وتلك كانت هي البداية لتحديد هوية السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل.
كان ذلك في الدار التي يقيم فيها ابن عمي الشيعي! جئت لتحيته والتحدث معه عن أمور عامة... لحظة ثم لفت انتباهي صوت خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلا " وهذه الخطبة وردت في مصادر السنة والشيعة وقد ألقتها فاطمة الزهراء لتثبيت حقها في فدك، ثم بدأ الخطيب في إلقاء الخطبة.
إلى حين استماعي لهذا الشريط لم أكن على استعداد للخوض في قضايا خلافية مذهبية. قد عرفنا أن الأخ - ابن عمي - شيعي وسألنا الله أن يهديه، وكنا نتحاشى الدخول معه في نقاش بقدر استطاعتنا. وذلك بعد الحوار الذي مر في بداية هذا الفصل. ولكن أبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يقيم علينا حجته.
ولماذا.. وكيف؟!! ومع من كان الحق وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟ وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزت مشاعري حينها وقررت الخوض في غمار البحث بجدية مع أول دمعة نزلت من آماقي.. وفي هذا المنحى لا أريد أن أسمع من أحد، فقط أريد خيط البداية أو بداية الخيط لأنطلق، ولم تكن الخطبة مقصورة على ما ذكرته من فقرات بل هي طويلة جدا وفيها الكثير من الأمور التي تشحذ الهمة لمعرفة تفاصيل ما جرى وظروفه الموضوعية المحيطة به.
انتهى الشريط، كفكفت دموعي محاولا إخفاءها حتى لا يحس بها ابن عمي، لا أدري لماذا؟ ربما اعتزازا بالنفس، ولكن هول المفاجأة جعلني أنهمر عليه بمجموعة من الأسئلة وما أردت جوابا، إنما هي محاولة للتنفيس وكان آخر أسئلتي إذا كان ما جاء في بعض مقاطع الخطبة صحيحا فهل كل ذلك من أجل فدك قطعة الأرض؟!
أجابني: عليك أولا أن تعرف من هي فاطمة ثم تبدأ البحث بنفسك حتى لا أفرض عليك قناعتي وأول مصدر تجد فيه بداية الخيط صحيح البخاري، وناولني الكتاب فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها.
ماذا بين أبي بكر وفاطمة (ع)؟
أخرج البخاري في صحيحه الجزء الخامس (ص 82) في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال: عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا نورث من تركناه صدقه إنما يأكل آل محمد من هذا المال... إلى أن يقول البخاري فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا وصلى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر ".
وأورد مسلم في صحيحه ذات الواقعة مع تغيير طفيف في الألفاظ يقول " فغضبت فاطمة " بدل كلمة وجدت (1).
من هاتين الروايتين وغيرهما نستخلص الآتي:
أولا: هذه الحادثة التي وقعت بين فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة الأول حقيقة لا يمكن تكذيبها ولا الإعراض عنها لأنها مثبتة في متن أكثر الكتب صحة واعتمادا عند أهل السنة والجماعة بل في كل المصادر التاريخية والحديثية كما سيأتي بيانه لاحقا.
ثانيا: إن الحادثة لم تكن خلافا عابرا أو سوء تفاهم بسيط بل هي مشكلة كبرى هذا ما نلمسه من كلمة " فوجدت فاطمة على أبي بكر " أو بتعبير مسلم " فغضبت فاطمة " فالغضب والوجد معناهما واحد، محصلة أن فاطمة غضبت غضبا شديدا على أبي بكر.. بالرغم من قول الخليفة بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " لا نورث " ولكن فاطمة غضبت.
ثالثا: إن غضب الزهراء كما أنه لم يكن قليلا في حدته لم يكن قصيرا في مدته بل استمر حتى وفاتها كما يقول البخاري نقلا عن عائشة " فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت " وهذا معنى جلي في أن حالة الغضب والخلاف استمر إلى وفاتها بل إلى ما
____________
(1) - صحيح مسلم كتاب الجهاد باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نورث ص 153 وكذلك أورده البخاري في كتاب فرض الخمس باب فرض الخمس.
رابعا: غضب الزهراء لم يكن منصبا فقط على أبي بكر بل شمل الخليفة الثاني بدليل عدم ذكره ضمن المصلين عليها، وسيتضح أثناء البحث أن موقف أبي بكر وعمر واحد يعني موقف الزهراء منهما وموقفهما منها، يقول ابن قتيبة في تاريخه " دخل أبو بكر وعمر على فاطمة فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط.. إلى أن يقول فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتعملان به؟ قالا: نعم فقالت نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضاها فقد أرضاني ومن أسخطها فقد أسخطني؟..
قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأشكونكما إليه، ثم قالت: والله لأدعون عليكما في كل صلاة أصليها " (1).
كل هذه الحقائق جعلت الدنيا مظلمة لدي.. وفور توصلي إليها قفز إلى ذهني ألف سؤال وسؤال.. لا أدري ماذا أفعل وكيف أفكر وإلى من ألجأ؟!! إنها بضعة المصطفى الصديقة فاطمة، أقرأ فإذا بها عاشت بعد أبيها في حالة غضب إلى أن ماتت... كيف ولماذا!! الطرف الآخر الذي غضبت عليه الزهراء إنه الخليفة الأول..
الصديق.. الخليل لقد كان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما علمونا - أكثر من نفسه.. فكيف يفعل بالزهراء شيئا يغضبها؟.
كيفما كانت التساؤلات ومهما كان التبرير هاهي فاطمة (ع) كما وجدت بين طيات الكتب غاضبة على الخليفتين.. وكما سأبين لك عزيزي القارئ في الفصول القادمة.. وبرغم كل الحواجز قررت مواصلة البحث والتنقيب على ألا أجعل بين
____________
(1) - الإمامة والسياسة " تاريخ الخلفاء " ص 12 - 13.
وسأبدأ معك عزيزي القارئ محطة فمحطة ولننطلق من تعريف شخصية فاطمة (ع) من خلال فضائلها التي سطرها الوحي بأحرف من نور وكللها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق حديثه وهو الصادق المصدق فكانت كلماته حول فاطمة ذات دلالات ومعان نحاول أن نستقصيها في هذه الصفحات وبلا شك لن نستوعب كل ما جاء من مناقب وفضائل عن الزهراء (ع) لكني سأحاول سرد ما يفيدنا في بحثنا هذا ومن ثم نتعرف على الحقائق المحيطة بفاطمة (ع) والتي بنورها وبركاتها اهتديت وخرجت من ظلمات الجهل إلى رحاب نور أهل البيت (ع).
فاطمة (ع) في القرآن
كثيرة هي الآيات التي تحدثت عن قدسية الزهراء (ع) ومكانتها السامية سنختار هنا بعضا منها.
الآية الأولى:
قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (سورة الأحزاب: آية / 33).
تشمل هذه الآية المباركة فيمن تشمل السيدة فاطمة الزهراء (ع) بل هي محور الآية وأساسها.. لأنها نزلت في أهل بيت النبوة، ولنا حديث مع أولئك الذين حاولوا إدخال البعض من غير أهل البيت في نطاق الآية، وما يهمنا الآن هو أن الزهراء معنية بهذا الخطاب الإلهي.. ولقد فصلت السنة في سبب نزول الآية وفيمن جاءت.
لقد أورد مسلم في صحيحه أن الآية محل النقاش نزلت في خمسة: النبي (صلى
عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) وذلك في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت وهو الحديث المعروف بحديث الكساء كما أنه اشتهر عند أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل العباءة أو الكساء وهذا من المتسالم عليه بين كل المسلمين خصوصا في مجتمعنا السوداني. وسنزيدك من المصادر التي تؤكد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليا وفاطمة والحسنين هم المقصودون بالآية في البحوث القادمة إن شاء الله ولكن دعنا الآن نتدبر الآية، ومن خلالها نتعرف على شخصية فاطمة (ع).
إن المتأمل في كلمات الآية يتوصل إلى أن المخاطبين بهذه الآية، وفاطمة أحدهم مطهرون معصومون من كل رجس، وتقريب ذلك تصدير الآية بأقوى أدوات الحصر على الاطلاق (إنما) مما يعني أن هذا الأمر خاص بجماعة معينة محددة لا يتعداهم إلى غيرهم، ثم يأتي البحث عن الإرادة الإلهية التي ذكرت في الآية (إنما يريد الله...) هي إرادة المولى عز وجل (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لك كن فيكون) فلا يمكن بحال تخلف إرادته تعالى.
أما الرجس في اللغة فمعناه كل ما يلوث الإنسان سواء كان لوثا ظاهريا أو باطنيا والذي يعبر عنه بالإثم.. والرجس في هذه الآية هو اللوث والنجاسة الباطنية لأن الابتعاد والطهارة من النجاسة الظاهرية وظيفة دينية عامة لجميع المسلمين وذلك لشمول التكليف للجميع ولا خصوص لأهل البيت حتى ترد هذه الآية بحصرها وتوكيدها لنفي الرجس الظاهري عن أهل البيت. إنما جاءت لبيان فضيلة لهم خصهم بها الله سبحانه وتعالى وأخبر عنها في كتابه العزيز.
ثم يأتي التأكيد (ويطهركم تطهيرا) إن النظرة العميقة للآية تجعلنا لا نشك لحظة واحدة في عصمة أهل البيت الذين ذكروا فيها ومنهم فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي معصومة مطهرة من كل رجس ظاهرا وباطنا وسيأتيك التأكيد
على ذلك.
الآية الثانية:
قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (سورة الشورى:
آية / 23). لقد جعل الله سبحانه وتعالى أجر الرسالة مودة أهل البيت ومنهم فاطمة الزهراء، فالآية نزلت في قربى الرسول وهم علي وفاطمة والحسن والحسين كما نقل ذلك أعلام الحديث والتفسير مثل الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ج 2 ص 130 والحاكم النيسابوري في المستدرك (1).
إنها العظمة والرفعة.. لقد وزن الله تعالى الرسالة المهيمنة على كل الرسالات بمودة القربى.. لقد استحقت فاطمة هذا الوسام الإلهي بجدارة ويكفينا لتأكيد ذلك تسطيرها ضمن آيات الذكر الحكيم.. إنه رصيد يضاف لمناقب الزهراء وفضائلها وإلى المزيد.
الآية الثالثة:
قوله تعالى (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (سورة آل عمران: آية / 61).
لم يختلف المسلمون أن هذه الآية أيضا من مختصات أهل البيت فهي نزلت يوم مباهلة نصارى نجران وقد أمر الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ معه عليا وفاطمة والحسن والحسين (ع). فكانت هذه الآية وذلك مما ذكره مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب (1). وهكذا مثلت فاطمة كل نساء الأمة وكانت المباهلة بمثابة تثبيت للرسالة، ولأهمية الحديث وعظمته في مسيرة
____________
(1) - كما أورد ذلك السيوطي في إحياء الميت والزمخشري في تفسيره الكشاف. والفخر الرازي في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة والبخاري وغيرها من المصادر.
(1) - وجاء ذلك أيضا في مستدرك الصحيحين للحاكم ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 158.
آيات أخرى:
يقول تعالى (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) إلى قوله تعالى (إن هذا كان لكم جزاءا وكان سعيكم مشكورا) (سورة الإنسان:
آية / 5 - 22)، هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين بمناسبة قصة صيامهم ثلاثة أيام وتصدقهم في تلك الأيام الثلاثة بطعامهم على المسكين واليتيم والأسير بينما هم في أشد الحاجة إلى الطعام لإفطارهم.. ولقد ذكر جمع كبير من المحدثين والمفسرين أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء الأربعة. منهم الزمخشري في كشافه.. والفخر الرازي في تفسيره (1).
إن نزول هذه الآيات في علي وفاطمة والحسنين ينبوع أخر لكرامتهم ومكانتهم عند الله.. إذ أن الخالق جل وعلا خاطبهم من عليائه بصيغة الأمر الذي أبرمه وفرغ منه (فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا...) إلى آخر الآيات هذه هي حقيقة الزهراء فاطمة وتلك هي مكانتها عند الله.
يطول بنا المقام لسرد كل ما جاء عن فاطمة في القرآن ولقد جمع أحد العلماء الآيات التي نزلت في فضل فاطمة وأهل البيت فبلغت (258) آية من الذكر الحكيم.
____________
(1) - الكشاف ج 4 ص 670 ط بيروت، أسد الغابة لابن الأثير الشافعي ج 5 ص 530 - 531، تذكرة الخواص للسبط بين الجوزي وشواهد التنزيل للحاكم، الدر المنثور للسيوطي وغيرها من المصادر.
فاطمة (ع) بلسان أبيها
ملاحظتان قبل الانطلاق في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فاطمة:
الملاحظة الأولى:
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يتحدث عن فاطمة فإنه لا ينطلق من عاطفة الأبوة وهو القائل فيه البارئ عز وجل (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في عموم حديثه عن الأشخاص لا يعطي أحدا أكثر مما يستحقه تبعا لعاطفته وحتى لو كان ذلك الإنسان ابنته.
لأننا لو قلنا بذلك لطعنا في نبوته وكلماته القدسية التي نؤمن جميعا بأنها حجة لا زيغ فيها ولا هوى.. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: " كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شئ سمعته من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه وقال: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق ".
إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق إلا صدقا وعدلا فلنضع كلماته عن الزهراء نصب أعيننا ونحن نقرأ عن موقفها بعد وفاته ولا نترك للشيطان سبيلا يتسلل منه.. لان فهمنا لهذه النقطة يمهد لنا السبيل لفهم موقف فاطمة (ع).
الملاحظة الثانية:
إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ركز في شخصية فاطمة على قدسيتها وخلوصها لله تعالى وقربها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يجعلك تأخذ الاحساس بأنها
جزء منه ما يصيبه كأنما أصابها وما يصيبها كأنما أصابه وأنها تمثله جسدا وموقفا..
تعبر عنه وهو المعبر عن إرادة الله تعالى وذلك في مجمل أحاديثه عن فاطمة " من أسخط فاطمة فقد أسخطني " " من أغضب فاطمة قد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ".. وعلى هذا المنوال.
ولقد استوقفني كثيرا محور كلام الرسول عن ابنته والذي كان يدور حول غضبها وسخطها ورضاها وكأنه - بأبي وأمي - يلمح للأمة بمصيبتها وابتلائها في موقفها من الزهراء.. وهذا لا ولن يخفى على ذوي الألباب المتفتحة والقلوب المفعمة بحب النبي وآله فلماذا يا ترى كان التركيز على هذا المحور بالذات؟! هل يعقل أن يكون ذلك بلا سبب؟! ألا يحمل هذا في طياته دلالات عميقة وإشارات واضحات.
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبلغ العرب حين يتكلم وأكثر الناس حكمة حينما يفصح كما كان أحسنهم إنصافا للناس.
لقد هيأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس حتى يصدقوا الزهراء حين تنطق وهيأهم لأن يتحاشوا غضبها إذا غضبت وأخبرهم أن أذاها أذى له وهكذا مهمة الأنبياء تربية الأمم حاضرا أثناء حياتهم وتهيئتهم لاستقبال الحوادث المستقبلية بعد رحيلهم.. والنبي وهو أعظمهم خص الزهراء وهو الصادق الأمين بهالة قدسية تحرم على الآخرين هتكها.. ولم يكن ذلك لقرابتها منه بل لأنها أخلصت للحق وذابت في بوتقته فكانت مقياسا ومعيارا للذين سيأتون بعد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجلت حكمة الرسول في أحاديثه المختلفة للأمة التي كانت تنظر لواقع المستقبل وهي تحمل في طياتها بصائر تتضح من خلالها الرؤية، وتحكم بها على أحداث الواقع في أي زمان ومكان. والأمثلة على ذلك كثيرة، لقد تحدث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن علي بن أبي طالب (ع) حينما قال " علي مع القرآن والقرآن مع علي " لأن معاوية سيأتي يوما ما ويرفع المصاحف على أسنة الرماح طالبا التحكيم بالقرآن كما حدث
في صفين حينها ستعرف أين جهة الحق والصدق لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك المعيار فعلي والقرآن لا يفترقان.. كذلك عندما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار " تقتلك الفئة الباغية " فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك مجالا للاعتذار لأولئك الذين قاتلوا في صف معاوية ضد علي ومعه عمار بن ياسر وهكذا أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطلق من الحاضر لتشخص داء الأمة في المستقبل.
كل ذلك يجعلنا ننظر إلى غضب الزهراء بقدسية وإلى موقفها بتعقل. إنه غضب من أجل الحق وموقف صدق ضد الانحراف.
إننا ننزه الزهراء من أن تغضب في سبيل شئ غير الحق إنه غضب مقدس وصرخة حق مدوية وبعد قليل سينكشف الغطاء وترى لماذا كان هذا الغضب.
وإليك بعضا مما قاله المصطفى في ابنته ربيبة الوحي فاطمة الزهراء (ع):
1 - " فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ".
رواه البخاري في صحيحه باب مناقب قرابة الرسول ج 4 ص 281 دار الحديث القاهرة (1).
2 - " إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ".
رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة.
وفي رواية " فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها " (2).
3 - قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (ع):
" إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك " رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين كتاب مناقب الصحابة ص 154 وقال عنه حديث صحيح الإسناد ولم
____________
(1) - ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 188.
(2) - أورده ابن حجر في صواعقه أيضا ص 190 وقد جاء هذا الحديث بصيغ مختلفة تعبر عن نفس المعنى في كثير من المصادر مثل مسند أحمد بن حنبل وكنز العمال والإمامة والسياسة لابن قتيبة... وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق