السَّقِيفَةُ وَفَدَكْ
لأبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري البصري البغدادي
المتوفى ـ 323 هـ
اصدار
مكتبة نينوى الحديثة
طهران ناصر خسرو ـ مروي
تقديم وجمع وتحقيق
الدكتور محمد هادي الأميني
( 1 )
السَقّيفة وفَدكُ
لأبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري البصري البغدادي
المتوفى ـ 323هـ
رواية
عز الدين عبدالحميد بن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 656
تقديم وجمع وتحقيق
الدكتور محمد هادي الأميني
1
أبي طالب فانه اتهمه وقال : أنظر وأرى ، فأقبل أبو طلحة عليه ، وقال : يا أبا الحسن ، ارض برأي عبد الرحمن ، كان الأمر لك أو لغيرك ، فقال علي : اعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ، ولا تمل الى صهر ولا ذي قرابة ، ولا تعمل إلا لله ، ولا تألو هذه الأمة أن تختار لها خيرها .
قال : فحلف له عبد الرحمن بالله الذي لا إله إلا هو ، لأجتهدن لنفسي ولكم وللأمة ، ولا أميل إلى هوى ولا إلى صهر ولا ذي قرابة .
قال : فخرج عبد الرحمن ، فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس ، ثم رجع واجتمع الناس ، وكثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب ، وكان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي ، وهوى طائفة أخرى مع عثمان ، وهي أقل الطائفتين ، وطائفة لا يبالون : أيهما بويع .
قال : فأقبل المقداد بن عمرو ، والناس مجتمعون فقال : أيها الناس اسمعوا ما أقول : أنا المقداد بن عمرو ، انكم إن بايعتم عليا سمعنا وأطعنا ، وان بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ، فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ، فنادى : أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وإن بايعتم عليا سمعنا وعصينا ، فقال له المقداد : يا عدو الله وعدو رسوله وعدو كتابه ، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ، فقال له عبد الله : يا ابن الحليف العسيف (1) ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش .
فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح : أيها الملأ ، ان أردتم الا تختلف قريش بينها ، فبايعوا عثمان ، فقال عمار بن ياسر : إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا ، ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال : يا فاسق يا
____________
(1) العسيف : المستهان به .
ابن الفاسق ، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم ، وارتفعت الأصوات ، ونادى مناد لا يدري من هو ، فقريش تزعم انه رجل من بني مخزوم ، والأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس ، لا يعرفه أحد منهم ، يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك ، وامض على ما في نفسك فانه الصواب .
قال الشعبي : فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه ، وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق : ان بايعتك لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر ، وعمر ، فقال علي عليه السلام : طاقتي ومبلغ علمي وجهدي رأيي ، والناس يسمعون .
فأقبل على عثمان ، فقال له مثل ذلك فقال : نعم لا أزول عنه ولا أدع شيئا منه .
ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات ، ولعثمان ثلاث مرات ، في كل ذلك يجيب علي مثل ما كان أجاب به ، ويجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به .
فقال : ابسط يدك يا عثمان ، فبسط يده فبايعه ، وقام القوم فخرجوا ، وقد بايعوا إلا علي بن أبي طالب ، فانه لم يبايع .
قال : فخرج عثمان على الناس ووجهه متهلل ، وخرج علي وهو كاسف البال مظلم ، وهو يقول : يا ابن عوف ، ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا ، من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا ، وآنها لسنة علينا ، وطريقة تركتموها .
فقال المغيرة بن شعبة ، لعثمان : أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه ، فقال عبد الرحمن بن عوف : كذبت ، والله لو بويع غيره لبايعته ، وما أنت وذاك يا ابن الدباغة ، والله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن ، تقربا إليه وطمعا في الدنيا ، فاذهب لا أبا لك .
قال المغيرة : لولا مكان أمير المؤمنين لاسمعتك ما تكره ، ومضيا .
قال الشعبي : فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو امية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ، قالوا : لا ، قال : يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة .
قال : فانتهره عثمان ، وساءه بما قال ، وأمر باخراجه .
قال الشعبي : فدخل عبد الرحمن بن عوف ، على عثمان ، فقال له : ما صنعت فوالله ما وقفت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثني عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعد الناس خيرا .
قال : فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله ، وسأهيئ ، ذلك ان شاء الله ، ولن آلوا امة محمدا خيرا ، والله المستعان .
قال عوانة : فحدثني يزيد بن جرير ، عن الشعبي ، عن شقيق بن مسلمة ، أن علي بن أبي طالب ، لما انصرف الى رحله ، قال لبني أبيه : يا بني عبد المطلب ، أن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته ، وان يطع قومكم لا تؤمروا أبدا ، ووالله لا ينيب هؤلاء الى الحق إلا بالسيف .
قال : وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، داخل إليهم ، قد سمع الكلام كله ، فدخل وقال : يا أبا الحسن ، أتريد ان تضرب بعضهم ببعض فقال : اسكت ويحك ، فوالله لولا أبوك وما ركب مني قديما وحديثا ، ما نازعني ابن عفان ، ولا ابن عوف ، فقام عبد الله فخرج .
قال : وأكثر الناس في أمر الهرمزان ، وعبيد الله بن عمر ، وقتله إياه ، وبلغ ما قال فيه علي بن أبي طالب ، فقام عثمان فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : أيها الناس أنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان ، وهو رجل من المسلمين ، وليس له وارث إلا الله والمسلمون ، وأنا
امامكم وقد عفوت ، أفتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس ، قالوا : نعم ، فعفا عنه ، فلما بلغ ذلك عليا تضاحك ، وقال : سبحان الله ، لقد بدأ بها عثمان ، أيعفو عن حق امرئ ليس يواليه ، تالله أن هذا لهو العجب ، قالوا : فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه .
قال الشعبي : وخرج المقداد من الغد ، فلقى عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده ، وقال : إن أردت بما صنعت وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة ، وان كنت انما أردت الدنيا فأكثر الله مالك . فقال عبد الرحمن : اسمع ، رحمك الله ، اسمع ، قال : لا أسمع والله ، وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على علي عليه السلام ، فقال : قم فقاتل حتى نقاتل معك ، قال علي : فبمن أقاتل رحمك الله ، وأقبل عمار بن ياسر ينادي :
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم ، والله لئن قاتلتهم واحدا لأكونن له ثانيا ، قال علي : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعوانا ، ولا أحب أن اعرضكم لما لا تطيقون ، وبقي عليه السلام في داره ، وعنده فنر من أهل بيته ، وليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان .
قال الشعبي : واجتمع أهل الشورى على ان تكون كلمتهم واحدة على من لم ييايع ، فقاموا الى علي ، فقالوا : قم فبايع عثمان ، قال : فإن لم أفعل ، قالوا : نجاهدك قال : فمشى الى عثمان حتى بايعه ، وهو يقول : صدق الله ورسوله ، فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فاعتذر إليه ، وقال : ان عثمان أعطانا يده ويمينه ، ولم تفعل أنت ، فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه ، فقال : ايها عنك ، انما آثرته بها لتنالها بعده ، دق الله بينكما عطر منشم (1).
____________
(1) منشم : امرأة عطارة من فزاعة ، فتحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها على أن يقاتلوا حتى تموتوا فضرب ذلك مثلا لشدة الأمر.
قال الشعبي : وقدم طلحة من الشام بعدما بويع عثمان ، فقيل له : رد هذا الأمر حتى ترى فيه رأيك ، فقال : والله لو بايعتم شركم لرضيت ، فكيف وقد بايعتم خيركم ، قال : ثعدا عليه بعد ذلك وصاحبه حتى قتلاه ، ثم زعما انهما يطلبان بدمه .
قال الشعبي : فأما ما يذكره الناس من المناشدة ، وقول علي عليه السلام ، الشورى : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا ، فانه لم يكن يوم البيعة ، وإنما كان بعد ذلك بقليل ، دخل علي عليه السلام على عثمان وعنده جماعة من الناس ، منهم أهل الشورى ، وقد كان بلغه عنهم هنات وقوارص ، فقال لهم : أفيكم أفيكم ، كل ذلك يقولون لا قال : لكني أخبركم عن أنفسكم ، أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين ، وتوليت يوم التقى الجمعان ، وأما أنت يا طلحة فقلت : إن مات محمد لتركضن بنى خلا خيل نسائه كما ركض بين خلا خيل نسائنا ، وأما أنت يا عبد الرحمن ، فصاحب قراريط ، وأما أنت يا سعد فتدق عن أن تذكر .
قال : ثم خرج فقال عثمان : أما كان فيكم أحد يرد عليه ، قالوا : وما منعك من ذلك وأنت أمير المؤمنين ، وتفرقوا .
قال عوانة (1) : قال اسماعيل : قال الشعبي : فحدثني عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي ، قال : كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان ، فجئت فجلست الى المقداد بن عمرو ، فسمعته يقول : والله ما رأيت مثل ما أتى الى أهل هذا البيت ، وكان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال :
____________
(1) أبو الحكم عوانة بن الحكم بن عوانة بن عياض من بني كلب مات 147 مؤرخ من أهل الكوفة ضرير كان عالما بالأنساب والشعر فصيحا واتهم بوضع الاخبار لبني امية له كتاب في التاريخ ، وسيرة معاوية ، نكت الهميان : 222 . الشذرات 1 : 243 وفيه وفاته 158 الاعلام 5 : 272 . النديم : 91 . ارشاد الاديب 6 : 93 .
وما أنت وذاك يا مقداد ، قال المقداد : اني والله أحبهم لحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله ، قال عبد الرحمن : أما والله لقد أجهدت نفسي لكم ، قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ، أما والله لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي اياهم ببدر وأحد ، فقال عبد الرحمن ، ثكلتك أمك ، لا يسمعن هذا الكلام الناس ، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة .
قال المقداد : ان من دعا الى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحق ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة .
قال : فتربد وجه عبد الرحمن ، ثم قال : لو أعلم انك اياي تعني لكان لي ولك شأن .
قال المقداد : أياي تهدد يا ابن ام عبد الرحمن ، ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف .
قال جندب بن عبد الله : فاتبعته وقلت له : يا عبد الله ، أنا من اعوانك ، فقال : رحمك الله ، ان هذا الأمر لا يغنى فيه الرجلان ولا الثلاثة ، قال : فدخلت من فوري ذلك على علي عليه السلام ، فلما جلست إليه قلت : يا أبا الحسن ، والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك ، فقال : صبر جميل والله المستعان .
فقلت : والله انك لصبور ، قال : فان لم أصبر فماذا أصنع قلت : اني جلست الى المقداد بن عمرو آنفا ، وعبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا وكذا ، ثم قام المقداد فاتبعته ، فقلت له كذا ، فقال لي كذا ، فقال علي عليه السلام ، لقد صدق المقداد فما أصنع ، فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم الى نفسك ، وتخبرهم أنك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين
عليك ، فان أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين ، فان دانوا لك فذاك ، وإلا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر ، قتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند الله حجة .
فقال : أترجوا يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد ، قلت : أرجوا ذلك قال : لكني لا ارجو ذلك ، لا والله ولا من المائة واحد ، وسأخبرك أن الناس إنما ينظرون الى قريش فيقولون : هم قوم محمد وقبيله ، وأما قريش بينها فتقول : ان آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا ، ويرون أنهم اولياء هذا الأمر دون قريش ، ودون غيرهم من الناس ، وهم ان ولوه لم يخرج السلطان منهم الى احد أبدا ، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها ، لا والله لا يدفع الناس الينا هذا الأمر طائعين أبدا .
قلت : جعلت فداك يا ابن عم رسول الله ، لقد صدعت قلبي بهذا القول ، أفلا ارجع الى المصر ، فؤذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس اليك ، فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك .
قال : فانصرفت الى العراق فكنت اذكر فضل علي على الناس ، فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك ، فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عني ويدعني . حتى رفع ذلك من قولي الى الوليد بن عقبة ، ايام ولينا ، فبعث الي فحبسني حتى كلم في ، فخلى سبيلي .
ونادى عمار بن ياسر ذلك اليوم : يا معشر المسلمين ، انا قد كنا وما كنا نستطيع الكلام ، قلة وذلة ، فأعزنا الله بدينه ، وأكرمنا برسوله ، فالحمد لله رب العالمين ، يا معشر قريش ، الى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ، تحولونه هنا هنا مرة ، وها هنا مرة ، وما أنا آمن أن ينزعه الله منكم ، ويضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ، ووضعتموه في غير أهله .
فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة : يا ابن سمية ، لقد عدوت طورك وما عرفت قدرك ، ما أنت وما رأت قريش لأنفسها ، إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها فتنح عنها .
وتكلمت قريش بأجمعها ، فصاحوا بعمار وانتهروه ؛ فقال : الحمد لله رب العالمين ، ما زال أعوان الحق اذلاء ، ثم قام فانصرف (1).
حدثني عمر بن شبه ، عن علي بن محمد ، عن قتادة ، قال : كان المغيرة بن شعبة ـ وهو أمير البصرة ـ يختلف الى امرأة من ثقيف ، يقال لها : الرقطاء ، فلقيه أبو بكرة يوما فقال له : اين تريد قال : أذكروا آل فلان ، فأخذ بتلابيبه وقال : إن الأمير يزار ولا يزور .
وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة فقال : فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخيوه ، نافع ، وزياد ورجل آخر يقال له : شبل بن معبد ، وكانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبي بكرة فضربت الريح باب غرفة المرأة ، ففتحته ، فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها ، فقال أبو بكرة : هذه بلية قد ابتليتم بها ، فانظروا ، فنظروا حتى أثبتوا ، فنزل أبو بكرة ، فجلس حتى خرج عليه المغيرة ، من بيت المرأة ، فقال له أبو بكرة : إنه قد كان من أمرك ما قد علمت ، فاعتزلنا ، فذهب المغيرة وجاء ليصلي بالناس الظهر ، فمنعه أبو بكرة وقال : لا والله لا تصلي بنا ، وقد فعلت ما فعلت ، فقال الناس : دعوه فليصل ، انه الأمير واكتبوا الى عمر ، فكتبوا إليه ، فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا ، المغيرة والشهود .
فبعث عمر بأبي موسى ، وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة ، فخرج أبو موسى حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد وأقبل انسان فدخل على المغيرة ، فقال : اني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة ، وعليه برنس ، وها هو في جانب المسجد ، فقال المغيرة : إنه لم يأت زائرا ولا تاجرا .
وجاء أبو موسى حتى دخل على المغيرة ومعه صحيفة ملء يده فلما رآه قال :
____________
(1) ابن أبي الحديد 9 : 49 ـ 58 .
(2) المربد : من أشهر محال البصرة ، وكان يكون فيه سوق الابل قديما ، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس ، وبه كانت مغافرات الشعراء ومجالس الخطباء . معجم البلدان 5 : 98 .
أمير فأعطاه أبو موسى الكتاب ، فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له : مكانك تجهز ثلاثا . وقال آخرون : إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته ، فقال : المغيرة : قد علمت ما وجهت له ، فألا تقدمت وصليت ، فقال : ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء ، فقال المغيرة : إني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز . فقال أبو موسى : قد عزم أمير المؤمنين ألا اضع عهدي من يدي ، إذ قرأته حتى ارحلك إليه ، قال : ان شئت شفعتني ، وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني الى الظهر ، وتمسك الكتاب في يدك .
فلقد رئي أبو موسى مقبلا ومدبرا ، وإن الكتاب في يده معل بخيط ، فتجهز المغيرة ، وبعث الى أبي موسى بعقيلة ، جارية عربية من سبي اليمامة ، من بني حنفية ، ويقال : آنهامولدة الطائف ، ومعها خادم ، وسار المغيرة حين صلى الظهر ، حتى قدم على عمر .
قال أبو زيد عمر بن شبة : فجلس له عمر ودعا به وبالشهود ، فتقدم أبو بكرة فقال : أرأيته بين فخذيها قال : نعم ، والله ، لكأني أنظر الى تشريم جدري بفخذيها ، قال المغيرة : لقد ألطفت النظر ، قال أبو بكرة : لم آل أن اثبت ما يخزيك الله به ، فقال عمر : لا والله حت تشهد . لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة ، قال : نعم أشهد على ذلك ، فقال عمر : اذهب عنك مغيرة ، ذهب ربعك .
ثم دعا نافعا فقال : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة أبي بكرة ، فقال عمر : لا حتى تشهد إنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة ، قال نعم : حتى بلغ قذذه (1) فقال : اذهب عنك مغيرة ، ذهب نصفك ، ثم دعا الثالث ، وهو شبل بن معبد فقال ، علام تشهد ؟ قال : على مثل شادتي صاحبي ، فقال : اذهب عنك مغيرة ، ذهب ثلاثة ارباعك . قال : فجعل المغيرة يبكي الى المهاجرين ، وبكى
____________
(1) قذذه : جمع قذة ، وهي جانب الخباء .
الى امهات المؤمنين حتى بكين معه ، قال : ولم يكن زياد حضر ذلك المجلس ، فأمر عمر ان ينحي الشهود الثلاثة وألا يجالسهم أحد من أهل المدينة ، وانتظر قدوم زياد ، فلما قدم جلس في المسجد ، واجتمع رؤوس المهاجرين والأنصار . قال المغيرة : وكنت قد أعددت كلمة أقولها ، فلما رأى عمر زيادا مقبلا ، قال : اني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين .
وفي حديث أبي زيد عمر بن شبه ، عن السري ، عن عبد الكريم بن رشيد ، عن أبي عثمان الهندي ، انه لما شهد الشاهد الأول عند عمر تغير الثالث لذلك لون عمر ، ثم جاء الثاني فشهد ، فانكسر لذلك انكسارا شديدا ، ثم جاء فشهد ، فكأن الرماد نثر على وجه عمر فلما جاء زياد ، جاء شاب يخطر بيديه ، فرفع عمر رأسه إليه ، وقال : ما عندك أنت يا سلح العقاب ، وصاح أبو عثمان الهندي ، صيحة تحكي صيحة عمر ، قال عبد الكريم بن رشيد : لقد كدت أن يغشى علي لصيحته .
فكان المغيرة يحدث ، قال : فقمت الى زياد فقلت : لا مخبأ لعطر بعد عروس يا زياد ، اذكرك الله ، واذكرك موقف القيامة وكتابه ورسوله ، ان تتجاوز الى ما لم تر ، ثم صمت ، يا أمير المؤمنين ان هؤلاء قد احتقروا دمي فالله الله في دمي ، قال : فتدفقت عينا زياد ، واحمر وجهه وقال : يا أمير المؤمنين ، أما ان أحق ما حق القوم ، فليس عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا ، وسمعت نفسا حثيثا ، وانتهارا ، ورأيته متبطنها ، فقال عمر : أرأيته يدخل ويخرج كالميل في المكحلة قال : لا .
وروي انه قاال : رأيته رافعا برجليها ، ورأيت خصيتيه مترددتين بين فخذيها ، وسمعت حفزا شديدا ، وسمعت نفسا عاليا ، فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟ قال : لا . فقال عمر : الله اكبر . قم يا مغيرة إليهم فاضربهم ، فجاء المغيرة الى ابي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين .
وروى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة ، وأعجب عمر قول زياد ،
ودرأ الحد عن المغيرة ، فقال أبو بكرة بعد ان ضرب : أشهد ان المغيرة فعل كذا وكذا ، فهم عمر بضربه فقال له علي ( عليه السلام ) : ان ضربته رجمت صاحبك ، ونهاه عن ذلك .
فاستتاب عمر ، أبا بكرة فقال : انما تستتيبني لتقبل شهادتي ، قال : أجل ، قال : فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا ، قال : فلما ضربوا الحد قال المغيرة : الله اكبر ، الحمد لله الذي أخزاكم ، فقال عمر : اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه .
وأقام أبو بكرة على قوله ، وكان يقول : والله ما أنسى قط فخذيها ، وتاب الاثنان فقبل شهادتهما ، وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة قال : اطلبوا غيري ، فإن زيادا أفسد علي شهادتي .
وكانت الرقطاء التي رمي المغيرة تختلف إليه في أيام امارته الكوفة ، في خلافة معاوية في حوائجها فيقضها لها (1).
____________
(1) ابن أبي الحديد 12 : 234 . وروى القصة أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني 14 : 145 وفيه : حدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري . تاريخ الطبري 4 : 207 . فتوح البلدان : 352 . الكامل 2 : 228 . البداية والنهاية 7 : 81 . عمدة القارئ 6 : 34 . الغدير 6 : 137 . وفيات الأعيان 6 : 364 . افحام الأعداء والخصوم 1 : خ . سنن البيهقي 8 : 235 .
وكانت الرقطاء هذه مغنية من أضرب الناس على آلات اللهو والطرب ، وقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة بن شعبة في هذه القصة :
تركت الدين والاسلام لمــا * بدت لك غـدوة ذات النصيف
وراجعت الصبا وذكرت لهوا * من القينـات والعمـر اللطيف
مات المغيرة بن شعبة بالكوفة سنة خمسين في خلافة معاوية وهو ابن سبعين سنة وكان ر جلا طوالا اصيبت عينه يوم اليرموك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق