بيعة الغدير تأصيل لمبادئ الاسلام ومنع الانحراف
بيعة الغدير تأصيل لمبادئ الاسلام ومنع الانحراف
جاء الاسلام الحنيف بمبادئه الانسانية السامية ، وهو يبغي تربية الامة المسلمة روحيا ومدنيا ، وفي الواقع ان مبادئه لا ترمي الى تربية الانسان المسلم فحسب ، بل الى تربية الانسان عموما قال تعالى وهو يخاطب نبيه الكريم (( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين )) النمل ، 77 وحرص الاسلام على بناء منظومة اخلاقية وثقافية خاصة به ، مع استبعاد المنظومة الاخلاقية الجاهلية التي لا تنسجم والهدف الانساني للاسلام ، وفي المجتمع العربي انذاك سادت كثير من القيم والمبادئ والاخلاقيات التي وقف الاسلام منها موقفا صلبا وقويا بغية تغييرها نحو المبادئ الجديدة ، والرسول الاعظم وهو صاحب الرسالة السماوية ، والذي كان المثل الاعلى للناس والذي مدحه الله تعالى في كتابه الكريم (( وانك لعلى خلق عظيم )) القلم ، 4 ، شعر وبرعاية ولطف وتوجيه رباني ان الامة لابد لها من راع للرسالة يخلفه في ترسيخ مبادئ الاسلام ، ويستمر في نهج الرسالة ، ويحافظ عليها من الانحراف والتشويه او توظيفها لمنافع ذاتية ، خاصة من الحكام ، واصحاب النفوذ ، سيما وان كثيرا من العرب الذين اعلنوا اسلامهم والوجوه الاجتماعية والعشائرية لم يستوعبوا بعد اهداف الرسالة السماوية ، ولم ينصهروا كليا فيها وفق ما يريده الاسلام لهم،اذ بقيت بعض رواسب الجاهلية في النفوس ، ولم تستطع كثير من الشخصيات المسلمة ان تتخلص من جميع مخلفات الجاهلية بصورة كلية، واولى بوادر محاولة الابتعاد عن المبادئ الاسلامية الاصيلة وزرع بذور الانحراف نشوء ظاهرة الكذب على الرسول ، ووضع الاحاديث ونسبتها اليه ، وقد شعر الرسول الاعظم بهذا النفس التخريبي ، وهذه المحاولات التي تبغي الانحراف ، سواء عن قصد او غير قصد من قبل بعض المسلمين ، او بعض من ينتسبون الى الاسلام ، ومن بعض اصحاب الديانات الاخرى ، خاصة اليهود لهذا السبب اكد على منع التزوير والكذب عليه ، فقال : (( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )) ، اذن محاولة جر الاسلام بعيدا عن مجراه وعن منابعه الطبيعية ، جرت من عهد مبكر جدا،من عصر رسول الانسانية محمد (ص) ، وبفعل الاحساس النبوي لخطورة هذه الظاهرة ،والظواهر الاخرى كالعصبية القبلية التي لم يستطع الكثير من الصحابة التخلص منها والتي تتعارض مع مبادئ الاسلام في نظرته الانسانية المتساوية لبني البشر حيث وقف بالضد من التعصب القبلي الاعمى ، وفي ظل هذه الاجواء شعر النبي بخطورة الموقف على الاسلام فجاء الامر الالهي بتنصيب راعي للرسالة من بعده ، فكانت بيعة الغدير تأكيدا لهذا الموقف ولمنع الانحراف عن المبادئ الاسلامية الاصيلة ، فجاءت بيعة الغدير لمن يمكن ان يكون راعيا للرسالة ووليا للمسلمين، يحرص على الاسلام بمبادئه الاصيلة ، ويمنع الانحراف ، ويحافظ على وحدة المسلمين بعيدا عن العصبيات القبلية ، ويعامل الناس بالقسط والعدل لا يفرق بينهم على اساس العشيرة اوالقرابة ،او الدين ، او الانتماء الطبقي او المناطقي ، بل الكل سواسية امامه في الحقوق والواجبات ، فكانت بيعة الغدير للامام علي (ع) لانه الاقرب لتجسيد المبادئ الاسلامية الاصيلة ، وهو الشخصية الوحيدة التي لا تحمل شيئا من رواسب الجاهلية بعد الرسول محمد(ص)حيث تربى في بيت النبوة،واشرف على تربيته الرسول الاعظم (ص) من طفولته بل من ولادته الى حين تبليغ الرسول الكريم (ص) بالرسالة السماوية ، فكان اول المؤمنين به ، فأخذ علي ينهل من مبادئ الاسلام الاصيلة النقية وكان الرجل الوحيد بعد الرسول (ص) ممن لم تدنسهما الجاهلية بأنجاسها ، ولهذه الاسباب الموضوعية ، اضافة الى السبب الاخر ، الذي امر فيه الله تعالى نبيه الكريم بأختيار علي (ع ) وليا للرسول من بعده ،فجاءت بيعة علي يوم الغدير وليا للدين من بعد النبي وواليا لكل مؤمن ومؤمنة لهذه الاسباب بمجملها بويع علي يوم الغدير، ومن حقنا ان نطلق على اليوم الذي بويع فيه علي حاميا وحافظا وصائنا للدين بعيد الغدير، ونؤيد قول الدكتورعلي شريعتي عندما يقول( انني لا أبارك عيد الغدير هذا للشيعة او المسلمين فقط ، وانما اباركه للانسان ))، لان عليا الانسان هو خير من جسد بعد الرسول الاكرم مبادئ الاسلام الانسانية ، والاسلام هو دين الانسانية وليس دين القومية او العشائرية او المناطقية او العنصرية .
فبيعة الغدير هي حجر الاساس لبناء الاسلام الاصيل ، ليسير في الاتجاه الصحيح الذي اراده الله تعالى والرسول الاعظم (ص) ، سيما وقد احسّ الرسول الكريم بالاتجاه الاخر الذي بدأت بوادره في حياته الكريمة ، الاتجاه الذي يريد توظيف الدين لاغراض شخصية ومطامح آنية ، ويقوم على اساس العصبية القبلية ، هذا الاتجاه الذي يريد ان يعيش اسلام الصورة والشكل والمنظر ، ولا يفهم الدين والايمان على انه نور يشع في القلب ويرسم طريقا للوصول الى الله تعالى ، الاتجاه الاخر هذا الذي يقوم على التزويروالتحريف والكذب على الرسول وهو لا يزال على قيد الحياة ، فكيف سيكون الحال عندما ينتقل الرسول الى جوار ربه،لذا برزت الضرورة الموضوعية لتثبيت علي وهو الاقرب الى مبادئ الاسلام الاصيلة بعد الرسول الاكرم ، لتثبيته وصيا ووليا على دين الله وهي امانة كبيرة لا يقوى على حملها غيرعلي المؤهل واقعيا وموضوعيا والمسدد من الله تعالى، كي يسيرالدين في المنحى السليم والمجرى الصحيح ، خاليا من الشوائب والانحرافات وبعيدا عن التخلف والجهل والخرافة التي البست لباس الدين المقدس خدمة للسلطان ،خصوصا ايام حكم الامويين والعباسيين واستمرت الحال الى حكم السلاطين العثمانيين ، ولاتزال الآثار باقية في كثير من البلدان الاسلامية في الوقت الحاضر ، هذه الافكار والمفاهيم التي البست العباءة الاسلامية المقدسة منذ حكم معاوية وما اعقبه من السلاطين الذين حكموا باسم الدين، اعتمدت على توجهات ظهرت بوادرها في عهد الرسول الاكرم (ص)،خاصة في الفترة التي سبقت وفاته ، الامر الذي دعاه لاعلان علي حاميا للدين ووليا للمؤمنين والمؤمنات ، وبمجرد وفاة النبي (ص) ، ظهرت بوادر الاتجاه الاخر للاسلام القائم على العصبية القبلية والفهم الخاطئ للدين، واذ انشغل الامام علي (ع) في تجهيز الجثمان الطاهر للرسول الاعظم ، انشغل المسلمون الاخرون بطموحات السيطرة على مقاليد الحكم ، فكان الاتجاه الاسلامي المعتمد على العصبية القبلية والعشائرية خرج الى العلن واخذ ينافس الاتجاه الاسلامي الاصيل الذي يدعو الى المبادئ الانسانية من حرية وعدالة ومساواة ونبذ الظلم وعدم التفريق بسبب الجنس او القرابة اوالعشيرة وعند اعلان وفاة الرسول الاعظم (ص) بدأ الاتجاه الاسلامي القائم على العصبية القبلية بالتحرك للسيطرة على السلطة ونسيان عهد النبي الى الامام علي (ع ) في بيعة الغدير ، فكانت احداث السقيفة وما تمخض عنها من تولي ابو بكر ( رض ) الخلافة من بعد النبي ( ص) ، اذ توزع المسلمون الى احزاب كل يدعو الى حزبه خاصة بين المهاجرين والانصار(( واذا فحصنا المنطق الذي استخدم قي الجدل الذي دارآنذاك بين المهاجرين والانصار نجد ان الروح القبلية ظاهرة فيه ظهورا بينا )) محمد مهدي شمس الدين .
وبتولي الخليفة ابو بكر الصديق الخلافة بعد الرسول الاكرم لم يشعر المسلمون بالخوف على الاسلام وان كان المهيأ موضوعيا هو الامام علي (ع) ، واذ خرجت البيعة لغيره قال : (( لاسلمن ما سلمت امور المسلمين وان كان فيها جور عليّ خاصة )) ، الا ّان الخليفة الاول بذل وسعه وجهده لخدمة الاسلام والمسلمين ، وقد وقف الامام علي معه مسددا ومعينا ، وبعد ابو بكر الصديق جاء الخليفة عمر بن الخطاب بوصية من الخليفة الاول فسار عمر بالمسلمين ايضا حسب جهده واجتهاده ، ولم يشعر المسلمون في عهده بالخطر على الاسلام ، اذ عزز سمعة المسلمين وقويت الدولة الاسلامية في عهده ، لكن الذي يجلب الانتباه انه لم يعمل بمبدأ المساواة في العطاء بين المسلمين ، اذ فضل المهاجرين على الانصار، وفضل بين المهاجرين انفسهم، وكذلك ميّز بين الانصار ، مما ولد تذمرا في صفوف بعض المسلمين،سيما وان الرسول الاكرم لم يفرق بين المسلمين وسار معهم بمبدأ المساواة وكذلك سار ابو بكر الصديق على منهج الرسول في العطاء ، يروى ان عمر اراد ان يتراجع عن المفاضلة في العطاء بين المسلمين في اواخر حياته (( وكأن عمر قد ادرك في آخر ايامه الاخطار السياسية والاجتماعية التي يؤدي اليها مبدؤه هذا ، ولعله رأى بعض الاثارالضارة التي خلفها هذا المبدأفي حياة المسلمين)) (( ولذلك اعلن عزمه على الرجوع الى المبدأ النبوي في العطاء فقال : اني كنت تألفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض ، وان عشت هذه السنة ساويت بين الناس فلم افضل احمر على اسود ، ولا عربيا على عجمي ، وصنعت كما صنع رسول الله وابوبكر )) نقلا عن تأريخ اليعوبي ،ثورة الحسين لمحمد مهدي شمس الدين .
وهذا النص المنقول عن تأريخ اليعقوبي يدلل على ان الخليفة عمر قد ادرك اخطار مبدأ عدم المساواة في العطاء بين المسلمين حيث يساعد على زرع الفتنة والحقد والحسد بين المسلمين ، وهذا الامر حمل الخليفة عمر ليتراجع عن مبدأ عدم المساواة في العطاء في الايام الاخيرة من حياته،ونستطيع القول ان هذه النتائج السلبية لم تكن لتظهر ولما كان الاسلام يتأثر بشئ لو كانت المياه تسير في مجاريها أي لو ان بعض الصحابة ممن لهم التأثير في القرار اقروا بالوصية التي اوصى فيها النبي محمد (ص) بالولاية الى الامام علي ( ع) ، لكن المسار الذي كان يفترض ان يسير فيه الاسلام بعد وفاة الرسول الاكرم (ص) أخذ يبتعد خطوة بعد اخرى عن منبعه الاصلي وطريقه الطبيعي ، ابتداءا من احداث السقيفة التي كشفت عن العصبية القبلية في نفوس بعض الصحابة ، حتى الوصية بالخلافة من قبل ابوبكر (رض) الى عمر بن الخطاب (رض) من دون الرجوع الى الامة ، ثم تلا ذلك مبدأعدم المساواة في العطاء بين المسلمين من قبل عمر ، ثم اعقبه مبدأ الشورى الذي اوصى به عمر بالخلافة الى ستة اشخاص ليختاروا واحدا منهم ((واذا كان التفضيل في العطاء قد خلق شعورا بالامتياز والتفرد لدى قريش فأن الشورى التي اقترحها عمر قد اثارت في نفوس كثير من الاشخاص البارزين انذاك وفي نفوس قبائلهم وانصارهم مطامح سياسية ماكانوا ليحلموا بها وقد سيطر منطق السقيفة القبلي على بني امية في الجدل الذي دار في مسجد النبي في المدينة والذي سبق البيعة لعثمان وبدا واضحا ان قريشا اعتبرت الخلافة مؤسسة من مؤسساتها ، وشأنا من شؤونها الخاصة ، وليس لأي من المسلمين ان يتقدم في الخلافة برأي يتنافى ورغباتها ..فقد آلت الشورى اذن في النتيجة الى استيلاء الامويين في شخص عثمان على الحكم ، ولكنها خلقت مواقف مختلفة من هذه النتيجة )) ثورة الحسين ، محمد مهدي شمس الدين .
وكان للامام علي (ع) وهو احد افراد الشورى الستة موقفا ازاء نتيجتها اذ قال : (( لقد علمتم أني احق الناس بها من غيري ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين ، ولم يكن فيها جور الا عليّ خاصة )) .
هذه الاحداث المتسلسلة ، اضافة الى سياسة عثمان الادارية والمالية التي قرّب فيها اقرباءه من بني امية ، وجعلهم متنفذين في السلطة ، يعتبرها العلامة محمد مهدي شمس الدين ، اسبابا ادت الى حدوث الفتنة زمن عثمان ((فكان من ذلك جميعا الانحراف الصريح عن مبادئ الاسلام الذي وصل بالمآساة الى قمتها،فدفع بالمسلمين الى الثورة)) ونرى ان الامور لو سارت في مساراتها الطبيعية ، ولو نفذت وصية الرسول الاعظم (ص) يوم الغدير ، لسار الاسلام في مساره الطبيعي الذي اراده النبي محمد (ص) ، ولتجنب المسلمون كثيرا من المآسي والمشاكل التي لا يزال المسلمون يعانون منها اليوم ، وبابتعاد الولاية عن علي سار الاسلام في اتجاهين ، خاصة بعد ان استلم الامويون السلطة بعد استشهاد الامام علي (ع) ، اذ ترسخ مبدأالسلطنة والملوكية الوراثية المتلبسة بلباس الدين التي اسس لها الامويون واعطت هذه السلطة صورة للاسلام غير صورته الحقيقية التي اراد الامام علي ترسيخ مبادئها ، ومنذ العصر الاموي حتى اليوم وللاسلام صورتان ، صورة الاسلام السلطاني الذي يدعو الى الخضوع والخنوع والاستسلام للحاكم الظالم وحرمة الثورة عليه ، مع الاهتمام بالرسوم والشكليات والمظاهر الدينية التي تخدم السلطة الظالمة ، هذا الاسلام البعيد عن جوهر الدين الذي وضع اسسه الامويون انتج الفكر المتطرف الذي يدعو الى الذبح والقتل والتحجر ، ورفض كل جديد ، وعدم الاعتراف بالاخر ، وانصار هذا الاسلام لا يرون الا وجها وحيدا له وهو المرسوم والمتخيل في افكارهم وعقولهم التي ترفض التقدم والتطور ، وترفض الاسلام الذي يلتزم الجماهير لا السلطان ، هذا هو الاسلام الذي اسس له الامويون، الذي اهمل اسلام محمد وعلي اسلام العدالة ومحاربة الظلم والظالمين ، اسلام المقاصد الحقيقية والواقعية ، وكل هذه الصورة المشوهة للاسلام سببها الابتعاد عن منابع الاسلام الحقيقية التي تبني النفوس والارواح بناء علميا وعقليا ، بعيدا عن الخرافة والجهل والتخلف والاستسلام لمقدسات مفروضة على الدين الحق، دين القلوب المنورة بنور الايمان والمحبة والخشوع والاستسلام للخالق العظيم ، وكل هذا الانتكاس والهبوط والتخلف والتطرف لما كان يحصل لو ان عليا تولى امر الاسلام بناء على وصية الرسول الكريم المستندة الى التوجيه الآلهي لرعاية الدين ، ولو سارت المياه في مجاريها الطبيعية لاستلمنا الاسلام الحقيقي وصورته السليمة والصحيحة ، بعيدا عن التشويش والتزويق والتخدير وبعيدا عن الانحراف ، ولاستلمنا اسلام الاصالة والمبادئ الانسانية السامية التي تستوعب الاخر المختلف ، ولا تدعو الى استئصاله ، بل تدعو الى العدل والمساواة والمحبة والحرية والسلام ، وبناء النفس قبل بناء الشكل والصورة .
اللهم صل على محمد وال محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق