السَّقِيفَةُ وَفَدَكْ
لأبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري البصري البغدادي
المتوفى ـ 323 هـ
اصدار
مكتبة نينوى الحديثة
طهران ناصر خسرو ـ مروي
تقديم وجمع وتحقيق
الدكتور محمد هادي الأميني
( 1 )
السَقّيفة وفَدكُ
لأبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري البصري البغدادي
المتوفى ـ 323هـ
رواية
عز الدين عبدالحميد بن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 656
تقديم وجمع وتحقيق
الدكتور محمد هادي الأميني
1
اليوم ، وان محمد بن مسلمة كان معهم ، وأنه هو الذي كسر سيف الزبير (1).
حدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال : جاء عمر الى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين فقال : والذي نفسي بيده لتخرجن الى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم ، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الانصاري ورجل آخر فندر (2) السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر .
قال أبو زيد : وروى النضر بن شميل (3) ، قال : حمل سيف الزبير لما ندر من يده الى أبي بكر وهو على المنبر يخطب فقال : اضربوا به الحجر ، قال أبو عمر وبن حماس : ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة ، والناس يقولون : هذا أثر ضربة سيف الزبير (4).
أخبرني أبو بكر الباهلي ، عن اسماعيل بن مجالد ، عن الشعبي ، قال : قال أبو بكر : يا عمر ، أين خالد بن الوليد ، قال : هو هذا ، فقال : انطلقا اليهما ـ يعني عليا والزبير ـ فأتياني بهما ، فانطلقا فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج ، فقال عمر للزبير : ما هذا السيف ؟ قال : اعددته لأبايع عليا ، قال : وكان في البيت ناس كثير ، منهم المقداد بن الاسود وجمهور الهاشميين ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه
____________
(1) ابن أبي الحديد 6 : 48 ومحمد بن مسلمة بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حادثة ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي المتوفى 43 بالمدينة ، من انصار عمر بن الخطاب ومن ملازميه واعتزل الخروج مع الامام علي ( عليه السلام ) فلم يشهد الجمل ولا صفين ولاه عمر على صدقات جهينة ؛ وكان عند عمر معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد ، وهو كان رسوله في الكشف عن سعد بن أبي وقاص حين بنى القصر بالكوفة . الاصابة 3 : 383 .
(2) ندر : سقط .
(3) أبو الحسن النضر بن شميل النحوي البصري نزيل مرو ، مات 204 ، كان اماما في العربية والحديث وهو اول من اظهر السنة بمرو وجميع خراسان وكان اروى الناس عن شعبة واخرج كتبا كثيرة لم يسبقه إليها احد ولي قضاء مرو . تهذيب التهذيب 10 : 437 . الشذرات 2 : 7 . بغية الوعاة : 404 .
(4) ابن أبي الحديد 6 : 48 .
فأخرجه ، وقال : يا خالد ، دونك هذا ، فأمسكه خالد وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أبو بكر رداءا لهما ، ثم دخل عمر فقال لعلي : قم فبايع فتلكأ واحتبس (1) فأخذ بيده وقال : قم فأبى ان يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ثم امسكهما خالد ، وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر . فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن ، فخرجت الى باب حجرتها ، ونادت ، يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله ، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله .
حدثني المؤمل بن جعفر ، قال : حدثني محمد بن ميمون ، قال : حدثني داود بن المبارك قال : أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله(3) بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، ونحن راجعون من الحج في جماعة ، فسألناه عن مسائل ، وكنت أحد من سأله ، فسألته عن أبي بكر وعمر ، فقال : أجيبك بما أجاب به جدي عبد الله بن الحسن ، فإنه سئل عنهما ، فقال : كانت امنا صديقة
____________
(1) احتبس : توقف .
(2) ابن أبي الحديد 6 : 48 . لقد تواترت الأحاديث ان فاطمة ماتت وهي وجداء على أ بي بكر ، اخرج البخاري في باب فرض الخمس عن عائشة : ان فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله ( ص ) سألت أبا بكر الصديق ( رض ) بعد وفاة رسول الله ( ص ) أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ( ص ) مما أفاء الله عليه ، فقال أبو بكر : ان رسول الله ( ص ) قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( ص ) فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرة حتى توفيت . الغدير 7 : 226 .
(3) مات في عهد المتوكل العباسي وكان قد توارى في أيام المأمون فكتب إليه بعد وفاة الامام الرضا ( عليه السلام ) يدعوه الى الظهور ليجعله مكانه ويبايع له واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله وما أشبه هذا من القول ، فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها : فبأي شيء تغرني ، ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالسم الذي أطعمته اياه فقتلته .
مقاتل الطالبيين : 415 . تنقيح المقال 2 : 219 . جامع الرواة 1 : 513 . فهرست الشيخ : 197 .
ابنة نبي مرسل ، وماتت وهي غضبى على قوم ، فنحن غضاب لغضبها (1).
أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا محمد بن حاتم عن رجاله ، عن ابن عباس ، قال : مر عمر بعلي ، وأنا معه فناء دار سلمه فسلم عليه . فقال له علي : اين تريد ؟ قال ؛ البقيع ، قال : أفلا تصل صاحبك ويقوم معك قال : بلى ، فقال لي علي : قم معه ، فقمت فمشيت الى جانبه فشبك أصابعه في أصابعي ، ومشينا قليلا ، حتى إذا خلفنا البقيع قال لي : يا ابن العباس ، أما والله أن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا أنا خفنا ، على اثنين ، قال ابن العباس : فجاء بكلام لم أجد بدا من مسألته عنه ، فقلت : ماهما يا أمير المؤمنين ؟ قال : خفناه على حداثة سنه ، وحبه بني عبد المطلب (2).
وحدثني أبو زيد قال : حدثني محمد بن عباد قال : حدثني أخي سعيد بن عباد ، عن الليث بن سعد عن رجاله ، عن أبي بكر الصديق انه قال : ليتني لم اكشف بيت فاطمة ، ولو أعلن علي الحرب (3).
وحدثنا الحسن بن الربيع ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن عبد الله بن العباس ، عن أبيه قال : لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله الوفاة ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أتوني بدواة وصحيفة ، اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي ، فقال عمر كلمة معناها ، أن الوجع قد غلب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قاله : عندنا القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف من في البيت واختصموا ، فمن قائل يقول : القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن قائل يقول : القول ما قال عمر ، فلما اكثروا اللغظ واللغو والاختلاف ، غضب رسول الله
____________
(1) ابن أبي الحديد 6 : 49 .
(2) ابن أبي الحديد 6 : 50 .
(3) ابن أبي الحديد 6 : 51 .
(4) أبو علي الحسن بن الربيع البجلي البوراني المتوفى 220 ، محدث من أهل الكوفة ـ قدم بغداد وحدث بها ، تاريخ بغداد 7 : 307 .
فقال : قوموا . إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا . . . فقاموا ، فمات رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك اليوم ، فكان ابن عباس يقول : أن الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلى الله عليه واله (1).
حدثنا أبو زيد . عن رجاله ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، ان تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه ، قويا في أمر الله ، وان تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر الله ، وإن تولوها عليا - وما أراكم فاعلين ـ تجدوه هاديا مهديا ، يحملكم على المحجة البيضاء ، والصراط المستقيم (2).
وحدثنا أحمد بن اسحاق بن صالح(3) ، عن أحمد بن سيار ، عن سعيد بن كثير الأنصاري عن رجاله ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، أن رسول الله صلى عليه وآله ، في مرض موتة(4) أمر اسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وأمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد ، وأن يغزو داري فلسطين ، فتثاقل اسامة وتثاقل الجيش بتثاقله ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه يثقل ويخف ، ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث ، حتى قال له اسامة : بأبي انت وأمي ، اتأذن لي أن امكث أياما حتى يشفيك الله تعالى فقال : اخرج
____________
(1) ابن أبي الحديد 6 : 51 ، وقال بعد ذكره الحديث ، قلت : هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن اسماعيل البخاري ، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحهما ، واتفق المحدثون كافة على روايته .
صحيح البخاري 3 : 91 . النص والاجتهاد : 155 . صحيح مسلم 3 : 1259 .
(2) ابن ابي الحديد 6 : 52 . حلية الأولياء 1 : 94 ، 64 . مجمع الزوائد 8 : 314 . كفاية الطالب : 164 ، وفي هذه المصادر هكذا : إن تولوها عليا وما أراكم فاعلين تجدوه هاديا ، مهديا ، يحملكم على الحجة البيضاء ، والصراط المستقيم .
(3) من شيوخ المؤلف مرت ترجمته في المقدمة .
(4) غزوة مؤتة ، كانت في جمادي الأولى سنة 8 . وسرية اسامة بن زيد وقعت في اليوم الثامن والعشرين من صفر بدأ به ( ص ) مرض الموت .
وسر على بركة الله ، فقال : يا رسول الله ، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك ، فقال : سر على النصر والعافية فقال : يا رسول الله إني أكره أن اسأل عنك الركبان ، فقال : انفذ لما أمرتك به ، ثم اغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقام اسامة فتجهز للخروج ، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وآله ، سأل عن اسامة والبعث ، فأخبر أنهم يتجهزون ، فجعل يقول : انفذوا بعث اسامة ، لعن الله من تخلف عنه ، وكرر ذلك ، فخرج اسامة واللواء على رأسه ، والصحابة بين يديه حتى إذا كان بالجرف(1) نزل ومعه أبو بكر وعمر ، واكثر المهاجرين ، ومن الأنصار اسيد بن حضير ، وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه ، فجاءه رسول ام أيمن يقول له : ادخل فإن رسول الله يموت ، فقام من فوره فدخل المدينة واللواء معه ، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله ، ورسول الله قد مات في تلك الساعة .
قال : فما كان أبي بكر وعمر يخاطبان أسامة الى أن ماتا إلا بالأمير (2).
حدثنا أبو زيد عمر بن شبة ، عن عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن السعدي عن أبيه ، أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة ، بعث مع ابن أبي عائشة مولاه الى علي بن أبي طالب عليه السلام بصلة ، فقال علي عليه السلام : والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث الينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة ، والله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة (3).
____________
(1) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام : معجم البلدان 2 : 128 .
(2) ابن أبي الحديد 6 : 52 . النص والاجتهاد : 94 .
(3) ابن أبي الحديد 6 : 175 . قال ابن أبي الحديد بعد نقله الحديث : أعلم أن أصل هذا الخبر قد رواه أبو الفرج علي بن الحسين الاصفهاني في كتاب الاغاني ، باسناده الى الحارث بن حبيش قال : بعثني سعيد بن العاص - وهو يؤمئذ امير الكوفة من قبل عثمان - بهدايا الى المدينة وبعث معي هدية الى علي عليه السلام وكتب إليه : اني لم أبعث الى أحد اكثر مما بعثت به ا ليك الا الى أمير المؤمنين ، فلما أتيت عليا عليه السلام وقرأ كتابه قال : لشد ما يخطر علي بنو أمية تراث محمد ( ص ) اما والله لئن وليتها لانفضنها نفض القصاب التراب الوذمة .
الوذام التربة : وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض .
عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما أخرج أبو ذر الى الربذة (1) أمر عثمان فنودي في الناس الا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه ، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به ، فخرج به ، وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب عليه السلام ، وعقيلا أخاه ، وحسنا ، وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه ، فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين اذني راحلته وقال : تنح لحاك الله إلى النار .
فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ عليه السلام ، ووقف أبو ذر فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى أم هاني بنت أبي طالب.
قال ذكوان : فحفظت كلام القوم ـ وكان حافظا ـ فقال علي عليه السلام : يا أبا ذر انك غضبت لله ، أن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقلى ، ونفوك الى الفلا ، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا . يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل ، ثم قال لأصحابه : ودعوا عمكم ، وقال لعقيل : ودع أخاك .
فتكلم عقيل ، فقال : ما عسى أن نقول يا أبا ذر ، وأنت تعلم أنا نحبك ، وأنت تحبنا فاتق الله ، فإن التقوى نجاة ، واصبر فان الصبر كرم ، واعلم ان استثقالك الصبر من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع .
ثم تكلم الحسن ، فقال : يا عماه ، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن ينصرف ، لقصر الكلام وان طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ،
____________
(1) الربذة : قرية من قرى المدينة على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز . معجم البلدان 3 : 24 .
واصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه وآله وهو عنك راض .
ثم تكلم الحسين عليه السلام ، فقال : يا عماه ، إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى ، والله كل يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك ، وأحوجهم الى ما منعتهم ، فأسأل الله الصبر والنصر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإن الصبر من الدين والكرم ، وأن الجشع لا يقدم رزقا ، والجزع لا يؤخر أجلا .
ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا ، فقال : لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، ومالوا الى سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .
فبكى أبو ذر رحمه الله ، وكان شيخاً كبيراً وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، اني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين(1) ، فافسد الناس عليهما ، فسيرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ، والله ما اريد إلا الله صاحبا ، وما أخشى مع الله وحشة .
ورجع القوم الى المدينة ، فجاء علي عليه السلام الى عثمان ، فقال له : ما حملك على رد رسولي ، وتصغير أمري ، فقال علي عليه السلام : أما رسولك ، فأراد أن يرد وجهي فرددته ، وأما أمرك فلم أصغره .
____________
(1) يعني مصر والبصرة ، كان والي مصر عبد الله بن سعيد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة ، وكان على البصرة عبد الله بن عامر ابن خاله لأن ام عثمان أروى بنت كريز ، وعبد الله بن عامر ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس .
قال : أما بلغك نهي عن كلام أبي ذر ، قال : أو كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه ، قال عثمان : أقد مروان من نفسك ، قال : مم ذا ، قال : من شتمه وجذب راحلته ، قال : أما راحلته فراحلتي بها ، وأما شتمه إياي ، فوالله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك .
فغضب عثمان ، وقال : لم لا يشتمك ، كأنك خير منه ، قال علي : أي والله ومنك ثم قام فخرج .
فأرسل عثمان الى وجوه المهاجرين والأنصار والى بني أمية ، يشكوا إليهم عليا عليهم السلام ، فقال القوم : أنت الوالي عليه ، واصلاحه أجمل ، قال : وددت ذاك ، فأتوا عليا عليه السلام ، فقالوا : لو اعتذرت الى مروان وأتيته ، فقال : كلا ، أما مروان فلا آتية ، ولا أعتذر منه ، ولكن ان أحب عثمان اتيته .
فرجعوا الى عثمان ، فأخبروه ، فأرسل عثمان إليه ، فأتاه ومعه بنو هاشم ، فتكلم علي ( عليه السلام ) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر ووداعه ، فوالله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقه ، وأما مروان فانه اعترض ، يريد ردي عن قضاء حق الله عز وجل ، فرددته رد مثلي مثله ، وأما ما كان مني اليك ، فانك اغضبتني ، فاخرج الغضب مني ما لم أوده .
فتكلم عثمان ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما كان منك الي فقد وهبته لك ، وأما ما كان منك الى مروان ، فقد عفا الله عنك ، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق ، فأدن يدك ، فأخذ يده فضمها الى صدره .
فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان : أأنت رجل ، جبهك علي ، وضرب راحلتك ، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة ، وذبيان وعبس في لطمة فرس ،
والأوس والخزرج في نسعة (1) ، أفتحمل لعلي عليه السلام ما أتاه اليك .
فقال مروان : والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه (2).
حدثني محمد بن منصور الرمادي (3) ، عن عبد الرزاق ، عن معمر عن زياد بن جبل ، عن أبي كعب الحارثي ، وهو ذو الاداوة(4) وانما سمي ذا الاداوة لانه قال : خرجت في طلب إبل ضوال ، فتزودت لبنا في اداوة ، ثم قلت في نفسي : ما أنصفت ربي فأين الوضوء ، فأرقت اللبن وملأتها ماء ، فقلت : هذا وضوء وشراب ، وطفقت أبغي ابلي ، فلما أردت الوضوء اصطببت من الاداوة ماء فتوضأت ، ثم أردت الشراب ، فلما اصطببتها إذا لبن فشربت ، فمكثت بذلك ثلاثا . فقالت له اسماء النحرانية ، يا أبا كعب ، أحقينا كان أم حليبا ، قال : انك لبطالة ، كان يعصم من الجوع ويروي من الظمأ ، اما إني حدثت بهذا نفرا من قومي ، منهم علي بن الحارث سيد بني قتان ، فلم يصدقني وقال : ما أظن الذي تقول كما قلت ، فقلت : والله أعلم بذلك ، ورجعت الى منزلي ، فبت ليلتي تلك ، فإذا به صلاة الصبح على بابي فخرجت إليه ، فقلت : رحمك الله لم تعنيت ، ألا أرسلت إلي فأتيك فاني لأحق بذلك منك ، قال : ما نمت الليلة إلا اتاني آت ، فقال : أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه قال أبو كعب : ثم خرجت حتى أتيت المدينة ، فأتيت عثمان بن عفان وهو الخليفة يومئذ فسألته عن شيء من أمر ديني ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب ، واني اريد أن اسألك فأمر حاجبك الا يحجبني ، فقال : يا وتاب إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له ، قال : فكنت إذا جئت ، فقرعت الباب قال : من ذا ؟ فقلت : الحارثي فيقول : ادخل ، فدخلت يوما فإذا عثمان جالس
____________
(1) النسعة : بكسر النون ، حبل عريض طويل نشد به الرحال .
(2) ابن أبي الحديد 8 : 252 . الغدير 8 : 301 .
(3) الصحيح احمد بن منصور الرمادي ، وقد ذكرنا ترجمته في المقدمة .
(4) الاداوة : بالكسر اناء صغير من جلد .
وحوله نفر سكوت لا يتكلمون ، كأن على رؤوسهم الطير ، فسلمت ثم جلست ، فلم اسأله عن شيء لما رأيت من حالهم وحاله ، فبينما انا كذلك إذ جاء نفر فقالوا : أنه أبى أن يجيء قال : فغضب وقال : أبى أن يجيء ، اذهبوا فجيئوا به ، فان أبى فجروه جرا .
قال : فمكثت قليلا فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع ، في مقدم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات ، فقلت : من هذا ، قالوا : عمار بن ياسر ، فقال له عثمان : أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء ، قال : فكلمه بشيء لم أدر ما هو ، ثم خرج ، فما زالوا ينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام ، فقلت : والله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثني فلا حتى أدري ما يصنع ، فتبعته حتى دخل المسجد ، فإذا عمار جالس الى سارية وحوله نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبكون ، فقال عثمان : يا وتاب علي بالشرط ، فجاءوا فقال : فرقوا بين هؤلاء ، ففرقوا بينهم .
ثم اقيمت الصلاة ، فتقدم عثمان فصلى بهم ، فلما كبر قالت امرأة من حجرتها : يا أيها الناس ، ثم تكلمت ، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بعثه الله به ، ثم قالت : تركتم أمر الله . وخالفتم عهده ونحو هذا ، ثم صمتت ، وتكلمت امرأة اخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة ، وحفصة .
قال : فسلم عثمان ، ثم أقبل على الناس وقال : إن هاتين لفتّانتان ، يحل لي سبهما ، وأنا بأصلهما عالم .
فقال له سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : وفيم أنت ، وما هاهنا ، ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه به فانسل سعد .
فخرج من المسجد فأتبعه عثمان ، فلقي عليا عليه السلام بباب المسجد ، فقال له عليه السلام : أين تريد ؟ قال : أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعدا يشتمه ـ فقال له علي عليه السلام : أيها الرجل دع عنك هذا ، قال : فلم يزل
بينهما كلام حتى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذي خلفك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم تبوك ، فقال علي : ألست الغر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يوم أحد .
قال : ثم حجز الناس بينهما ، قالك ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت الى الكوفة فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر ، ونشبوا في الفتنة ، وردوا سعيد بن العاص ، فلم يدعوه يدخل إليهم ، فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي (1).
محمد بن قيس الأسدي (2) ، عن المعروف بن سويد ، قال : كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلا في المسجد جالسا وهو يصفن(2) باحدى يديه على الأخرى ، والناس حوله . ويقول : واعجبا من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ، ونور البلاد ، والله أن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ، ولا آمر بالمعروف ، ولا أنهى عن المنكر ، فسألت عنه فقيل : هذا المقداد ، فتقدمت إليه ، وقلت : أصلحك الله من الرجل الذي تذكره ، فقال : ابن عم نبيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، علي بن أبي طالب .
قال : فلبثت ما شاء الله ، ثم أني لقت أبا ذر رحمه الله ، فحدثته ما قال المقداد ، فقال : صدق ، قلت : فما يمنعكم ان تجعلوا هذا الأمر فيهم ، قال : أبى ذلك قومهم ، قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم قال : مه لا تقل هذا ، اياكم والفرقة والاختلاف .
____________
(1) ابن أبي الحديد 9 : 3 .
(2) أبو نصر محمد بن قيس الأسدي الوالي الكوفي ... كان من الثقاة روى عنه حفيده وهب ابن اسماعيل بن محمد بن قيس ، والثوري وشعبة وعلي بن مسهر ، وحفص بن غياث ، ويحيى بن سعيد الأموي ، ووكي ، وأبو نعيم وآخرون . تهذيب التهذيب 9 : 412 .
(3) يصفن : يضرب .
قال : فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان (1).
لما طعن عمر جعل الأمر شورى بين ستة نفر : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك ، وكان طلحة يومئذ بالشام ، وقال عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قبض وهو عن هؤلاء راض ، فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم ، وأوصى صهيب بن سنان ، مولى عبد الله بن جدعان ويقال : أن أصله من حي من ربيعة بن نزار ، يقال لهم عنزة ـ فأزره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم ، وكان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلين : علي وعثمان ، وقال : ان قدم طلحة فهو معهم ، وإلا فلتختر الخمسة واحدا منهم . وروي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى ، وقال : الأمر في هؤلاء الأربعة ، ودعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي الامام ، ثم قال : ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما تخالجتني فيه الشكوك ، فان اجتمع ثلاثة على واحد ، فكونوا مع الثلاثة ، وان اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن .
وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة ، فوالله لطالما أعز الله بكم الذين ، ونصر بكم الاسلام ، اختر من الاسلام خمسين رجلا ، فأت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة ، فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة رجلا منهم .
ثم جمع قوما من المهاجرين والأنصار ، فأعلمهم ما أوصى به ، وكتب في وصيته أن يولي الأمام سعد بن مالك الكوفة ، وأبا موسى الأشعري ، لأنه كان عزل سعدا عن سخطه فأحب أن يطلب ذلك الى من يقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد .
قال الشعبي : فحدثني من لا اتهمه من الأنصار ـ هو سهل بن سعد
____________
(1) ابن أبي الحديد 9 : 21 . الغدير 9 : 114 بلفظ آخر . تاريخ اليعقوبي 2 : 140 .
الأنصاري ـ قال : مشيت وراء علي بن أبي طالب ، حيث انصرف من عند عمر ، والعباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه ، فسمعته يقول للعباس : ذهبت منا والله ، فقال : كيف علمت ، قال : ألا تسمعه يقول : كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن لانه ابن عمه ، وعبد الرحمن نظير عثمان وهو صهره ، فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا ، مع أني لست أرجوا إلا أحدهما ، ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا ، لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا ، كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا ، أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى الينا قديما ، ولأعلمته سوء رأيه فينا ، وما أتى الينا حديثا ، ولئن مات ـ وليموتن ـ ليجتمعن هؤلاء القوم على ان يصرفوا هذا الأمر عنا ، ولئن فعلوها ـ وليفعلن ـ ليرونني حيث يكرهون ، والله ما بي رغبة في السلطان ، ولا حب الدنيا ، ولكن لأظهار العدل والقيام بالكتاب والسنة .
قال : ثم التفت فرآني وراءه فعرفت انه قد ساءه ذلك ، فقلت : لا ترع أبا حسن ، لا والله يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها ، فوالله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله عليا الى رحمته .
قال عوانة : فحدثنا اسماعيل ، قال : حدثني الشعبي ، قال : فلما مات عمر ، وأدرج في أكفانه ، ثم وضع ليصلي عليه ، تقدم علي بن أبي طالب فقام عند رأسه ، وتقدم عثمان فقام عند رجليه ، فقال علي عليه السلام : هكذا ينبغي أن تكون الصلاة ، فقال عثمان : بل هكذا ، فقال عبد الرحمن : ما أسرع ما اختلفتم ، يا صهيب : صل على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة ، فتقدم صهيب فصلى على عمر .
قال الشعبي : وأدخل اهل الشورى دارا ، فأقبلوا يتجادلون عليها ، وكلهم بها ضنين ، وعليها حريص ، إما لدنيا وإما لآخرة ، فلما طال ذلك قال عبد الرحمن : من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر ، ويختار لهذه الأمة رجلا منكم ، فان طيبة نفسي ان أخرج منها ، واختار لكم قالوا : قد رضينا إلا علي بن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق